تحولت ممرات المساعدات في غزة، مثل زكيم ونتساريم وموراج، إلى مختبرات نفسية تستخدمها إسرائيل لتجارب جماعية على البشر، حيث تنهار المنطق والقيم الشخصية، ويتعرض الإنسان لإعادة تشكيل نفسي بعد أن يتم تفكيكه نفسياً، في هذه الأثناء، تتقدم الدبابات الإسرائيلية على تلال رملية تطل على مناطق مفتوحة، حيث يستخدمها المدنيون كملاذ أخير من النيران العشوائية التي تشتد مع بدء تحرك شاحنات المساعدات بعيداً عن المركبات العسكرية.
في تلك اللحظة، ينقطع الخيط الأخير الذي يربط الشخص بإحساسه الذاتي، وتغلق الاستجابات البشرية الطبيعية، ليصبح الإنسان شيئاً آخر، شيئاً غير مألوف، تتدافع الحشود نحو شاحنات المساعدات، حيث يسقط البعض ويُقتل الآخرون، ولا يتوقف أحد، إنها سباق مع الموت.
الهواء مليء بالغبار الكثيف الذي يجعل الرؤية صعبة، بينما يرتفع صوت إطلاق النار فوق كل شيء آخر، يركض الناس نحو شاحنات المساعدات التي تبدو صغيرة وسط الفوضى المحيطة بهم.
من يسقط يُداس عليه أو تُحطم جماجمهم تحت عجلات الشاحنات، وإذا كانوا محظوظين، فإنهم يكتفون بكسر أرجلهم، المشهد يشبه فيديو مسرع لكائن فقاري يتفكك، حيث يتحول جسده إلى عظام نظيفة في لحظة.
هذه المشاهد ليست مجرد مشاهد مروعة، بل هي أيضاً مجال نادر ومعقد لفهم السلوك البشري، ما الذي يُفعل بنا.
ما الذي يدفعنا إلى هذه الحالة، وكيف يمكن للبشر، تحت ظروف معينة، أن يُفقدوا جميع دفاعاتهم الغريزية ويندمجوا في سلوك فوضوي يشبه سلوك القطيع.
قد يبدو أن الجوع وحده يكفي لتفسير الوضع، لكن الجوع غالباً ما يكون الشرارة الأولية، ومع مرور الوقت، يمكن أن يتحول الفوضى إلى مورد أساسي في السوق، يظهر شكل جديد من العمل، مع فئات متميزة من العمال، حيث يأتي المحترفون، المعروفون محلياً بوحدات "السكر والنوتيلا"، في المقدمة، حيث يستولون على أفضل وأثمن العناصر.
يليهم أولئك الذين يجب عليهم العمل لتأمين غذائهم الخاص أو لبيعه لتلبية احتياجات أخرى، بدأ المزيد من الناس في إدراك العوائد الضئيلة لمشاريعهم الصغيرة مقارنة بما يمكن الحصول عليه من خلال مطاردة المساعدات.
إن الصدمة الجماعية، وهي حالة نفسية تؤثر على السكان الذين يتعرضون لأحداث مرعبة مثل القصف والتشويه والدمار والجوع، لها آثار موثقة جيداً، العديد من الأفراد يطورون سلوكيات إدمانية كآليات للتكيف.
نشهد إعادة تشكيل للفرد والمجتمع والسوق والنسيج الاجتماعي الذي يربط الناس معاً، في هذا السياق، يصبح اقتحام شاحنات المساعدات، الذي تشرعه القوة المحتلة كخيار وحيد لـ"إخماد الجوع"، أكثر من مجرد فعل يائس، بل يتحول إلى نمط قهري، وسيلة للبحث عن آثار الذات في عالم تحكمه العجز والعبث.
أصبح الحصول على المساعدات الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها للأفراد أن يشعروا بوجودهم، حتى لو كان ذلك من خلال طرق مدمرة وفوضوية، لم يعد سلة الطعام أو كيس الدقيق مجرد مصدر للتغذية الجسدية، بل أصبح شكلاً من أشكال الإشباع النفسي الذي يقدم الطمأنينة، ووسيلة لتأكيد الوضع الاجتماعي والسلطة والشعور بالوكالة في البيئة المحيطة.
تتملك الرغبة، بل والاضطرار، لتكرار هذه التجربة – مرة بعد مرة – رغم أن الفرد قد حصل بالفعل على الطعام وإحساس مؤقت بالأمان، إن الدافع للحصول على المساعدات يعكس عمق الأزمة الإنسانية التي تعيشها غزة، ويعكس التحديات النفسية والاجتماعية التي تواجهها المجتمعات تحت الاحتلال.
